كيف يُسهم تسريب النفط “عمدا” في حماية البيئة بكندا؟
نادرا ما يسكب الناس النفط عمدا، لكن باحثين في المعهد الدولي للتنمية المستدامة بمقاطعة أونتاريو بكندا، يسكبون مادة البيتومين، وهي مادة لزجة سوداء تستخرج من الرمال النفطية، في أحواض بإحدى البحيرات في منطقة بحيرات التجارب التابعة للمعهد، لكنهم يهدفون من وراء ذلك إلى حماية النظم البيئية للمياه العذبة من التسربات النفطية التي قد تحدث مستقبلا.
وفي أعمدة عملاقة تشبه أنابيب الاختبار، مملؤة بمياه البحيرات الطبيعية، يدرس العلماء التأثير السميّ والمادي والكيميائي والحيوي للبيتومين المخفف على الكائنات الحية التي تعيش في المياه العذبة، من العوالق النباتية والحيوانية إلى الضفادع والأسماك.
فرصة للإجابة على تساؤلات قد تسهم في حماية بحيرات كندا
لم يُجر هذا النوع من التجارب إلا داخل المعامل، ولكن المعامل لا يمكن أن تحاكي البيئة الطبيعية تماما. وهذه التجربة، التي تعد الأولى من نوعها في كندا، ستتيح الفرصة للعلماء للإجابة على تساؤلات قد تسهم في حماية بحيرات كندا مستقبلا، منها على سبيل المثال: ما الذي يحدث للبيتومين عندما يتسرب في المياه العذبة؟ وأين يذهب؟ وما هي الطرق الأكثر أمانا وفعالية لإزالة آثاره من البحيرات؟
وذلك لأن طرق إزالة آثار البيتومين الناتج عن حوادث التسرب العرضية تختلف بالضرورة عن طرق إزالة بقع النفط الخام التقليدي.
وقبل أسابيع من تدشين التجربة، كان العمل في مقالع الحصى يجري على قدم وساق، إذ كان عشرات الطلاب يجرفون الرمال ويضعونها في أكياس، وينقلونها بالشاحنات والدراجات الرباعية إلى البحيرة عبر طريق موحل. ثم يضعونها على الرصيف الخشبي لوضعها في القوارب.
ويقوم الطلاب في هذا المشروع بمهام متنوعة، بخلاف نقل أكياس الرمال، مثل جمع المادة المخاطية التي تفرزها الأسماك لتحليلها، وسحب المياه من الأحواض المخصصة لإجراء التجارب قبل سكب البيتومين المخفف وبعده، ثم وضع بيض ضفادع الغابات في المياه غير المعالجة والمياه المعالجة لمراقبة تأثير التعرض للبيتومين على نموها داخل البيض.
ومن المتوقع أن تُجمع البيانات في فصلي الصيف والخريف من هذا العام قبل أن تتجمد البحيرات. وستنشر نتائج تحليلات الفريق المكون من أكثر من 30 عالما في الدوريات العلمية ثم تتاح للجمهور لاحقا.
واشتهر المعهد الدولي للتنمية المستدامة بالبحيرات المخصصة للتجارب، التي لوثها العلماء سابقا، في إطار تجارب مشابهة، بالفسفور والكادميوم والزئبق والاستروجين الاصطناعي، وهي المادة الفعالة في أقراص منع الحمل. لكن هذه هي المرة الأولى التي يُسكب فيها نفط.
تدابير أخرى لاحتواء بقع النفط
وأطلق على هذا المشروع اسم تجربة تسرب النفط في البحيرات الشمالية. ويقول فينس بالاس، رئيس العلماء الباحثين بمنطقة بحيرات التجارب بالمعهد الدولي للتنمية المستدامة، وقائد الفريق البحثي لدراسة إزالة أثار التسرب النفطي من المياه العذبة (فورست)، إنهم لن يسكبوا النفط في البحيرة بأكملها، بل في أحواض بلاستيكية صغيرة داخل البحيرة، تحجز البقعة النفطية في مساحة محددة وتمنع تسربها لمياه البحيرة. هذا بالإضافة إلى أربع تدابير أخرى لاحتواء بقع النفط وتجنب تلويث البحيرة بأكمها.
لكن تنفيذ التجارب في هذه الأحواض الصغيرة أفضل من تنفيذها داخل المختبرات، لأنها ستتيح الفرصة للعلماء للتعرف على الطرق التي ينتشر بها البيتومين في المياه، وكيف يؤثر على البيئة.
ويقول بروس هوليبون، عالم كيمياء تحليلية لدى وزارة البيئة والتغير المناخي بكندا ويشارك في مشروع تسرب النفط في البحيرات الشمالية: “نواجه العديد من المشاكل الفنية عند إجراء التجارب داخل المختبرات، فكيف تطبق نتائج التجارب التي أجريت داخل أحواض ضيقة داخل المعامل على البحيرات الشاسعة. إذ ينطوي تسرب النفط على سبيل المثال على عوامل عديدة وتتغير كل هذه العوامل بمعدلات مختلفة كلما زاد حجم المياه”.
ويتابع: “ولكن مشروع البحيرات الشمالية يتيح لنا العمل في البيئة الأقرب للبحيرة، وإن كانت أقل حجما منها، وسيعطينا صورة واضحة عن طبيعة التغيرات التي تطرأ على هذه البيئات الطبيعية (كنتيجة للتسرب النفطي)”.
أضف إلى ذلك أن جميع التجارب التي أجريت على التسرب النفطي كانت في المحيطات، حتى الدراسات التي كانت مخصصة للمياه العذبة.
ويقول هوليبون: “لم يجر إلا القليل من الدراسات عن النظم البيئية الشمالية”. والنظام البيئي الشمالي هو النظام البيئي أو المناخ شبه القطبي الذي يسود في نصف الكرة الشمالي. وتغطي الغابات الشمالية أو “التايغا” نصف الأراضي الكندية تقريبا وتتميز بأشجارها الصنوبرية وصخور الغرانيت والمستنقعات والبحيرات.
وأثير جدل واسع في كندا حول تأثير التسرب النفطي على هذه النظم البيئية وغيرها. وقد اشترت الحكومة الفيدرالية الكندية مؤخرا خط أنابيب نفطي “ترانس ماونتن” وهذا يعني أن دافعي الضرائب الكنديين سيصبحون قريبا ملاكا لخط الأنابيب.
وتمر خطوط السكك الحديدية وخطوط الأنابيب الناقلة للنفط عبر النظم البيئية الشمالية في كندا. ويقول هوليبون إن حوادث تسرب نفطي عديدة وقعت على مدار العقد الماضي في الغابات الشمالية والمستنقعات. ولكننا لم يكن لدينا المعلومات الكافية عن الطرق المناسبة لاحتواء التسرب النفطي.
ولكن المشكلة أن البيتومين يظل عالي اللزوجة حتى بعد تخفيفه بنسب ضئيلة من الزيوت الأخف كثافة لتسمح له بالتدفق خلال خطوط الأنابيب. وتقول ديان أوريهل من جامعة كوين في مدينة كينسنغتون بمقاطعة أونتاريو، وتشارك في هذا المشروع، إن تفاعل البيتومين مع المياه العذبة يختلف عن تفاعله مع النظم البيئية البحرية.
ويحاول الباحثون في هذا المشروع استكشاف أمور عديدة، منها المدة التي يظل فيها البيتومين المخفف طافيا في النظم البيئية للمياه العذبة، وسرعة تبخر العناصر الأخف وزنا، وعناصر البيتومين التي تترسب في القاع وسرعة تراكمها ودخولها في الشبكة الغذائية.
وسينقسم الباحثون إلى فرق لمراقبة التغيرات التي تطرأ على البيتومين المخفف، ويراقب كل فريق تأثيره على النظام البيئي من أوجه مختلفة، مثل الهواء والماء والرواسب والكائنات الدقيقة التي تعيش على أسطح النباتات البحرية أو غيرها من الأسطح المستقرة على القاع وتسمى “بريفيتون”، والحيوانات مثل ضفادع الغابات وأسماك المنوة الصغيرة.
ثم يرصد الباحثون نسب مركبات الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات، وهي مجموعة من المواد الكيماوية التي توجد في مواد عضوية مثل الزيت، وتتضمن عناصر مسببة للسرطان.
وأخيرا ستجري الفرق المختلفة تجارب على الكائنات الحية التي تستوطن المياه العذبة قبل انسكاب البيتومين المخفف وبعده. إذ سيبحثون عن أنواع البكتيريا والعوالق النباتية والحيوانية والحشرات التي تعيش في البحيرات والحيوانات اللافقارية التي تعيش في القاع، وسيحصون عدد كل نوع منها. وسيراقبون مدى تأثير البيتومين على بقائها على قيد الحياة ووظائفها وتكاثرها بالمعدل الكافي لتوفر الغذاء اللازم لبقاء الأنواع الأخرى التي تتغذى عليها.
ويدرس جول بليه، من جامعة أوتاوا، ورئيس فريق الباحثين في هذا المشروع، سرعة تراكم الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات الناتجة عن تسرب البيتومين المخفف أو سرعة خروجها من أجسام الأسماك.
الدراسة فريدة من نوعها
ويقول بليه إن هذه الدراسة فريدة من نوعها، لأنها أول دراسة على الإطلاق تبحث في الأثار الحيوية لست جرعات مختلفة من البيتومين المخفف في بيئات طبيعية.
وبمراقبة تأثير البيتومين في أحواض تحتوى على جرعات متباينة من البيتومين ومقارنتها بثلاثة أحواض أخرى لا تحتوي على البيتومين، سنضع الحد الأقصى المسموح به لنسب البيتومين في المياه، فإن تجاوزت هذا الحد سيؤثر البيتومين على النظم البيئية للمياه العذبة”.
وقدر الباحثون الجرعات بحذر لتحاكي بقع النفط والبيتومين التي نجمت عن حوادث تسرب من خطوط الأنابيب في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا.
وكانت أعلى جرعة تقترب من نسبة النفط إلى الماء في البقعة النفطية في نهر كالامازو بولاية ميشغان، التي نتجت عن حادث التسرب الذي وقع في عام 2010، والذي عدّ من أكبر حوادث التسرب النفطي داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
وسيقدر فريق الباحثين بالمشروع سرعة ترسب البيتومين في القاع، لأن البيتومين المخفف يحتوي على الأسفلت اللزج، فإذا ترسب في القاع ستصعب إزالته.
وقد دُشن المشروع التجريبي لتجارب تسرب النفط في البحيرات الشمالية بالمعهد الدولي للتنمية المستدامة العام الماضي، إذ سكب الباحثون مادة البيتومين في ثلاثة خزانات مملؤة بمياه البحيرات والرواسب، وخلص هذا المشروع إلى أن الطقس يقوم بدور كبير في تغير خواص البيتومين المسكوب.
وتقول أوريهل إن البيتومين كان يطفو في البداية، ثم سرعان ما تغيرت كثافته ولزوجته وأخذ يستقر تدريجيا في القاع. إذ هطلت في اليوم السابع للتجربة أمطار غزيرة وترسب على إثرها البيتومين في القاع.
وتقول أوريهل إن هذه الملاحظات كانت أولية لا يمكن الاستدلال بها على نتائج الدراسة الحالية، فنحن لا نعرف بعد كيف سيتفاعل البيتومين مع المياه العذبة في أنابيب الاختبار الضخمة بالبحيرات.