كتابة التاريخ بنظرة على الثقب الأسود
نحدثكم من عام 2019، لقد وُعِدنا بلحظة خالدة في علم الفلك؛ فعلى مدار سنوات، ظل تلسكوب (Event Horizon) يعمل جاهدًا على جلب أول صورة لأفق الحدث الخاص بالثقب الأسود.
وفي تلك الأحداث المخطط لها في واشنطن وبروكسل وسانتياغو وشانغهاي وتايبيه وطوكيو، سيعطي علماء الفلك الإنسانية نظرة أولى على الثقب الأسود الذي يقع في وسط مجرتنا درب التبانة، سنرى أيضًا واحدًا أكبر بكثير في قلب مجرة (Messier 87)، على بعد حوالي 54 مليون سنة ضوئية من الأرض، مما سيفتح للبشرية واحدة من الشقوق الصغيرة في جدار الأسرار التي يحتويها الكون. وفي الواقع، على الرغم من شعبيتها في الخيال العام، فإننا لم نشهد ثقبًا أسودًا حقيقيًا، والسبب في ذلك بسيط ومضحك.
لماذا لا نستطيع رصد الثقوب السوداء؟
الثقوب السوداء، كما ترى، غير مرئية حرفيًا.
إن جاذبيتها هائلة لدرجة أنه بعد نقطة معينة، لا شيء يهرب منها، ويشمل ذلك الإشعاع الكهرومغناطيسي مثل الأشعة السينية والأشعة تحت الحمراء والضوء والموجات اللاسلكية التي من شأنها أن تسمح لنا باكتشاف الجسم مباشرة.
كل هذا من المتوقع أن يتغيّر في غضون ساعات، وذلك بفضل تلسكوب (Event Horizon)، الذي شُغِلَ في أبريل 2017، ليكون مكونًا من ثمانية تلسكوبات مصطفة ومهمتهم الوحيدة الدخول إلى الفضاء ومحاولة التقاط لأول مرة على الإطلاق صورة ثقب أسود.
تُسَمّى نقطة اللاعودة هذه بـ «أفق الحدث»، وبغض النظر عن كونه موقعًا مرعبًا لا تريد أن تجد نفسك فيه أبدًا، فهو أيضًا مفتاح تصوُّر وجود ثقب أسود في الواقع، وعلى الرغم من أننا قد لا نكون قادرين على رؤية الثقب الأسود نفسه، إلا أننا تمكنّا من تصوير «أفق الحدث» الخاص به؛ ونحن الآن قريبون للغاية من رؤية النتائج.
تحتوي بعض المجرات التي تُعرف باسم المجرات الراديوية على ثقوب سوداء فائقة الكتلة نشطة للغاية خاصةً في الأطوال الموجية الراديوية، مثل هذا الثقب الأسود مُحاط بقرص من المادة التي تسقط فيه، وحول ذلك القرص تقبع دوامة ضخمة على شكل طارة من الغبار.
وأُشيدَ بفيلم كريستوفر نولان لعام 2014 (Interstellar) لتصويره الافتراضي «الدقيق علمياً» للثقب الأسود، والذي يعتمد في جزء كبير منه على العمل الذي قام به عالم الفيزياء الفلكيّة (Luminet) قبل عقود، وتم إنشاؤه بالتشاور مع الفيزيائي النظري كيب ثورن من جامعة كاليفورنيا للتكنولوجيا.
في نهاية المطاف، اختار الفيلم نسخة مبسطة، ليكون أقل إرباكًا وأكثر جمالًا على الشاشة.
في وسط مجرتنا ثقب أسود يحمل اسم (*Sagittarius A)، له كتلة تعادل حوالي 4.1 مليون من شمسنا، وبهذا يكون «ثقب أسود هائل» -حيث إن الثقوب السوداء الأكثر شيوعًا يمكن أن تكون صغيرة مثل خَمس كُتَل شمسية- حيث تبلغ مساحته 24 مليون ميل، أو حوالي 50 مليار من حجم المجرة. إن محاولة التقاط صورة لذلك من مسافة 26000 سنة ضوئية تقع فيها الأرض من مركز درب التبانة تشبه محاولة اكتشاف برتقالة على سطح القمر بالعين المجردة، على النقيض من ذلك، فإن الثقب الأسود في مركز (M87)، يحتوي على كتلة تعادل ربما 7 مليارات شمس، أو 1700 مرة أكبر من الثقب الأسود الخاص بنا.
الشيء الوحيد الذي جعل العمل ممكنًا ليس فقط عدد التلسكوبات التي تتعاون في البحث، ولكن توزيعها الجغرافي والمسافة بين الكاشفات، خاصةً الـ 9000 ميل التي تمتد من الشمال إلى الجنوب، من إسبانيا إلى القارة القطبية الجنوبية، حيث يسمح ذلك بجمع كمية هائلة من البيانات ومقارنتها، وعلى مدار العامين الماضيين، كان الترتيب الأكثر تعقيدًا، حيث عملت الفرق بشكل مستقل ولم تشارك أي معلومات فيما بينها حول النتائج الأولية خشية أن تؤثر أو تلوث بيانات بعضها البعض فقط، وعندما تم الانتهاء من ذلك قاموا بإعادة تجميع صفوفهم والاستعداد لإعلان 10 أبريل.
هناك صدفة علميّة في حقيقة أن اثنين من الثقوب السوداء من هذه المقاييس المختلفة جذريًا كانت في متناول كاشفات (Event Horizon)، لأنها توفر مزيجًا أكثر ثراءً بكثير من البيانات التي تمت دراستها معًا بدلاً من بعضها البعض، (*Sagittarius A) هو ثقب أسود هادئ نسبيًا، مع طارة غبار حوله باهتة نسبيًا، فهو لا يبتلع الكثير. بينما يعد الثقب الأسود الموجود في مركز (M87) وحشًا يمتص المادة وينفث جسيمات ذات شحنات فائقة السرعة تقترب من سرعة الضوء وتمتد لخمسة آلاف سنة ضوئية وقال عالم الفيزياء الفلكية توماس كيرشباوم من معهد ماكس بلانك في ألمانيا لصحيفة ساينس نيوز في الفترة التي سبقت الإعلان:
«من غير المنطقي إلى حد ما التفكير في أن هناك ثقبًا أسود ينفث شيئًا ما، عادةً ما يعتقد الناس أنه يبتلع شيئًا ما.»
في الحقيقة، فإن الجسيمات التي تتألف منها النفاثات لا تنسكب من قبل الثقب الأسود على الإطلاق، لأنها لم تسقط من البداية لتبدأ. وبدلاً من ذلك ، تُمتص تقريبًا وتُسَرّع بواسطة الطاقة العنيفة بالقرب من الثقب وتنفجر بعيدًا. هذا الفهم الكلي لكيفية عمل الطائرات لا يشبه التحليل الأكثر تفصيلًا والأكثر دقةً بكثير الذي يمكن القيام به الآن مع صور (M87) في متناول اليد.
لم تُكلف المراصد المعنية بالتقاط صورة تقليدية لـ (*Sagittarius A)، بدلاً من ذلك، تمت مزامنتها لمراقبة الإشعاعات المنبعثة من حلقة المواد الساطعة لأفق الحدث، والتي يمكن أن تساعد في توضيح صورة ظلية للثقب الأسود الفائق الكتلة نفسه، تم تشغيلها لمدة تسعة أيام فقط ولكنها تمكنت من جمع مجموعة كبيرة من البيانات التي استغرقت عامين لنقلها ومعالجتها وتحليلها من أجل تجميع صورة مرئية للكائن نفسه كما نأمل فهذا سيكون شديد الصعوبة عندما نتحدث عن كائن يبعد مسافة تزيد عن 25000 سنة ضوئية، ولكن (Event Horizon) لديه دقة تمكنه من ذلك، حيث تضم التلسكوبات الثمانية مجتمعة طاقة بصرية تبلغ 1000 ضعف قدرة تليسكوب هابل الفضائي.
يعد تصوير الثقب الأسود أكثر أهمية من مجرد الحصول على شيء جديد للنشر على (Instagram)، يقول روجر بلاندفور عالم الفيزياء الفلكية النظري ومقره جامعة ستانفورد:
«يمكن لصورة كهذه أن تؤكد أن النسبية العامة لأينشتاين هي النظرية الصحيحة لوصف الجاذبية، ويمكن أن تخبرنا بما يحدث بالفعل حول الثقب الأسود.لا نعرف ماذا سنرى؛ من المحتمل أن تُرجع البيانات عددًا قليلًا فقط من وحدات البكسل الضبابية، إذا كان الأمر كذلك فستنضم المزيد من التلسكوبات إلى المجموعة، وسيحاول العلماء مرة أخرى»
نظرًا لأن الثقب الأسود يحتوي على طارة غبار قد تراكمت أثناء عمليات المراقبة، فإننا نتوقع شيئًا يشبه إلى حد كبير عمل عالم الفيزياء الفلكيّة (Luminet).