في شهر مايو من العام الماضي، عُثر على حوت طائر صغير غير قادر على السباحة يصارع لالتقاط أنفاسه إثر أكل خمسة أكياس بلاستيكية.

بعد أن فشلت محاولات إنقاذه، اتضح للعلماء وجود ما يزيد على 17 رطلاً من البلاستيك قد سدت أحشاءه.  هذه الحادثة وغيرها، وإن كانت فردية، تعد بمثابة إنذار لمشكلة تتفاقم يوماً بعد يوم، ألا وهي مشكلة (بلاستيك المحيطات)

إعجاز صناعي ولكن

عندما ازدهرت صناعة البلاستيك في منتصف القرن العشرين، غزا حياتنا اليومية كمادة سحرية يمكن تسخيرها في العديد من الاستخدامات ولها أن تحل مشاكل عدة.

فهذه البوليمرات – سلسلة طويلة متكررة من جزيئات صغيرة- تتميز بخفة وزنها، قوة تحملها، وسهولة تشكيلها لصنع منتجات تتراوح بين أكياس، زجاجات وأكواب، أنابيب المياه، النظارات، ألعاب الأطفال، أقمشة الملابس، الأثاث، الأجهزة الكهربائية والهواتف، وغيرها. هذا إلى جانب توفر المواد الخام اللازمة لتصنيعها ورخص ثمنها.

لكن بمرور الوقت ومع اعتيادنا على استهلاكها بشراهة، أصبح تراكم هذه المواد في بيئتنا يمثل عبئاً وباتت مشكلة التخلص من هذه النفايات أزمة يصعب حلها. فمنذ عام 1950، تضاعف الإنتاج السنوي للبلاستيك 200 مرة تقريباً ليصل إلى 322 مليون طن في عام 2015، وفقاً لتقرير رابطة التجارة الأوروبية للبلاستيك.

وفي وجود 50% من منتجات البلاستيك متاح للاستخدام مرة واحدة فقط، فإن جل ما استطاع الجنس البشري أن فعله هو دفنها تحت الأرض وإلقاؤها في المحيط. حيث تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 8 مليون طن من البلاستيك يتم طرحها في محيطاتنا كل عام، مع العلم أن ما تم إعادة تدويره يمثل 9% فقط من كل أنواع البلاستيك التي تم تصنيعها قط.

القمامة في كل مكان

بين جزيرة هاواي وولاية كالفورنيا الأمريكية، وفي مشهد يثير الحزن، تقع أكبر بقعة لتجمع المخلفات البلاستيكية المعروفة بــ «دوامة نفايات شمال المحيط الهادئ»، والتي يقدر حجمها بثلاثة أضعاف حجم دولة فرنسا. هذه البقعة هي واحدة من خمس بقع يتراكم بها البلاستيك البحري في محيطات العالم. ويوجد حالياً ما يتعدى 5 تريليون قطعة بلاستيكية طافية على سطح الماء، تنتشر في كل مكان من القطبين إلى خط الاستواء ومن السطح إلى قاع البحر، ولعلك تتساءل من أين تأتي كل هذه المخلفات؟

حوالي 80٪ من بلاستيك المحيط يأتي من مصادر أرضية، مثل: مكبات القمامة، المصانع، الشواطئ، مياه الصرف الصحي غير المعالج، مياه العواصف، حيث تحمل المخلفات بواسطة الرياح والأنهار أو يتم طرحها مباشرة في البحر. في حين تأتي النسبة المتبقية من مصادر بحرية مثل مصائد الأسماك، وتربية الأحياء المائية والرحلات التجارية أو السفن الخاصة.

مصير بائس

مشكلة البلاستيك تكمن في كونه مقاوماً للتحلل البيولوجي بواسطة الأحياء الدقيقة. فحسب نوعه، قد يستغرق من عشرات إلى مئات السنين كي يتحلل في الماء، إضافةً إلى أنه خفيف الوزن ويمكنه الانتشار بسهولة بواسطة الأمواج والرياح. كما أن المنتجات البلاستيكية تحتوي على مواد مضافة لتعطي البلاستيك الشكل والمرونة المطلوبة، بعض هذه المواد يعد سامًا ويمثل خطرًا على صحة الكائنات الحية.

والأسوأ من ذلك، هو أن البلاستيك يعمل كالإسفنجة فيقوم بامتصاص الملوثات العضوية الموجودة بالبحار لتتراكم على سطحه، وهو ما يجعل ابتلاعه أكثر خطورة على الأحياء البحرية.

ويتسع التأثير السلبي للفضلات البلاستيكية ليشمل ما يقارب 700 نوع من الأسماك، السلاحف البحرية، الحيتان، الفقمات، الطيور البحرية، وغيرها. فبينما تسبح هذه الكائنات من الممكن لها أن تعلق بالحبال والشباك أو ترتطم بمعدات الصيد البلاستيكية، وهو ما قد يسبب الجروح أو يعيق حركتها ونموها، بل قد يودي ببعضها إلى الغرق أو التضور جوعًا حتى الموت، وهي مشكلة تعاني منها الثدييات البحرية على الأخص، مثل فقمات الفراء، كونها فضولية وتحب اللعب.

كذلك فهي معرضة لابتلاع مخلفات البلاستيك، إما عن طريق الخطأ أو بالعمد -لا سيما أن كيساً بلاستيكياً عائم الشفاف قد يبدو لسلحفاة بحرية كوجبة قنديل شهية. فقد وجد، على سبيل المثال، أن السلاحف البحرية التي يتم صيدها في داخل أو بالقرب من دوامة نفايات شمال المحيط الهادئ تحتوي وجباتها الغذائية على ما يصل إلى 74٪ من البلاستيك.

ابتلاع كميات كبيرة من البلاستيك ينتج عنه انخفاض في سعة المعدة مما يؤدي إلى شعور غير حقيقي بالامتلاء، وهو ما يعني فقدان الشهية وسوء تغذية. كما قد يتسبب في انسداد الأمعاء، تقرحات أو تمزق بالمعدة.

هذا عوضاً عن تأثير المواد السامة الموجودة بالبلاستيك، مثل ثنائي الفينيل متعدد الكلور (PCBs) ، والهيدروكربونات العطرية المتعددة الحلقات (PAHs)، ومبيدات الآفات العضوية مثل دي دي ت (DDT)، والتي يكون بعضها مسرطناً وبعضها يسبب اضطراب الهرمونات-كونها تشبه مركبات الإستروجين- فتؤثر على قدرة هذه الأحياء على التكاثر. وكل هذا لا يقتصر تأثيره فقط على الفرد الذي ابتلع هذه المواد، بل أيضاً على بقية السلسلة الغذائية التي تقوم باستهلاكه، والتي تشمل البشر.

اضطراب بيئي

غير تأثيرها على الأفراد، يمكن للمخلفات البلاستيكية أن تحدث خللاً بالتنوع الحيوي والنظام البيئي البحري ككل. ففي قاع البحار، قد تُكون الأغطية البلاستيكية حاجزًا يحجب الضوء، ويقلل من التبادل الغازي للأكسجين، ويمنع وصول المواد العضوية للكائنات التي تعيش بالقاع. وعلى الشاطئ، عندما تحاول صغار السلاحف الهجرة إلى أعماق المحيط، قد تقف المخلفات البلاستيكية عقبة في طريقها فتجعلها أكثر عرضة للافتراس، مما يقلل من أعدادها.

ويتضح أن 17% على الأقل من الأنواع المذكورة بالدراسات التي وثقت حالات تشابك أو ابتلاع للمخلفات، هي كائنات مهددة بالانقراض على القائمة الحمراء التابعة للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة والموارد الطبيعية (IUCN). مع الأخذ في الاعتبار أن الغالبية العظمى (92%) من المخلفات المذكورة هي مخلفات بلاستيكية. وفي الوقت ذاته، يمكن أن تزداد أعداد بعض الكائنات مثل صراصير المياه، حيث تقوم بوضع بيوضها على القطع البلاستيكية الصغيرة.

أما بالنسبة لقمامة البلاستيك العائمة، فهذه بمثابة بيوت متنقلة لأعداد كبيرة من الكائنات الحية تتراوح بين الكائنات الحية الدقيقة إلى اللافقاريات العالقة أو المتنقلة، وحتى الحيوانات السابحة التي تتجمع تحت الحطام العائم.

ونظراً لمقاومتها العالية ووفرتها بشكل هائل في محيطات العالم، تسهل القمامة البحرية انتشار «الأنواع المجتاحة»، وهي الكائنات التي تنتشر في أماكن خارج حدود توزيعها الطبيعي وتتكاثر بدرجة قد تسبب الأذى للكائنات التابعة بالأصل للبيئة الجديدة.

فعلى سبيل المثال، بعد أن اجتاح زلزال 2011 وتسونامي اليابان، انتقلت أكثر من 280 سلالة من بلح البحر الياباني والبرنقيل (نوع محار يعيش بالمياه المالحة) والكيسيات البحرية لمدة ست سنوات في رحلة عبر المحيط الهادئ، من سواحل اليابان وحتى شواطئ جزيرة هاواي والساحل الغربي لأمريكا الشمالية على الحطام العائم، وقد وصلت حية ومستعدة للتكاثر.

تحت تأثير الأشعة فوق البنفسجية والأمواج، يتكسر البلاستيك إلى أجزاء متناهية الصغر (حجمها أقل من 5 ملليمترات) تعرف باسم «الميكروبلاستيك»، كذلك يشمل الميكروبلاستيك الألياف الصناعية من الملابس والكرات الموجودة في منتجات النظافة الشخصية مثل غسول الوجه.

نظراً لصغر حجمها، يمكن لمختلف الكائنات أن تبتلعها بسهولة – حتى الصغيرة منها مثل العوالق واليرقات والتي تقع في أدنى السلسلة الغذائية. فقد وجد العلماء جسيمات الميكروبلاستيك في 220 نوعاً مائيًا، وأكثر من نصف هذه الأنواع يقدم على قائمة طعامك. هذا عوضاً عن الماء الذي نشربه ومنتجات أخرى مثل: ملح الطعام، العسل، البيرة.

خطر تعرض البشر للبلاستيك يزداد عند تناول الأسماك الصغيرة كاملة أو الرخويات-حيث يتركز البلاستيك بالجهاز الهضمي للحيوان. ومع هذا، فإن الجسيمات الصغيرة -خاصة تلك بحجم النانو- يمكنها أن تنتقل من الجهاز الهضمي إلى أنسجة السمك التي يستهلكها البشر.

لا يزال البحث في مدى تأثير الميكروبلاستيك على صحة الإنسان جارياً، لكن الأبحاث الأولية تقترح أن تراكم هذه الجسيمات قد يخل من وظيفة الجهاز المناعي، يعطل ميكروبات الأمعاء، ويحفز من حدوث الالتهابات، تكاثر الخلايا وموتها، والانتقال الكيميائي للملوثات الكيميائية الممتصة للخلايا.

وقد أظهرت العديد من الدراسات أن مادة بيسفينول A الموجودة بالبلاستيك قد تؤدي إلى اختلال بوظائف الكبد، تغيرات في مقاومة الأنسولين، تطور الأجنة في رحم المرأة الحامل، الجهاز التناسلي والدماغ. كذلك يمكن لـ إسترات الفثالات أن تؤثر على التطور الجنسي وتتسبب في تشوه الأجنة.

هذا غير تأثيرها على أنشطة الصيد التجارية، السياحة والاقتصاد بشكل عام. حيث تقدر الخسائر المالية التي يسببها البلاستيك البحري بقيمة 13 مليار دولار أمريكي بالسنة، وفقاً لتقارير برنامج الأمم المتحدة للبيئة.

على الرغم أن مشكلة بلاستيك المحيطات هي مشكلة طويلة الأمد، إلا أنه توجد العديد من الطرق للتغلب عليها، حيث يمكن للمستهلكين تجنب المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد، وباستطاعة الكيميائيين البحث عن بوليمرات جديدة تتحلل إحيائيًا. كما ينبغي على الحكومات أن تفرض قوانين لمنع استخدام أنواع البلاستيك الأكثر إشكالية، والاستثمار في البنية التحتية لجمع هذه المواد وإعادة تدويرها قبل وصولها إلى المياه.

المصدر: إضاءات